أخبار

المجتمع الدولي وقانون حقوق الإنسان

المجتمع الدولي وقانون حقوق الإنسان

                                        علاء شلبي(*)

   في عالم تغلب فيه التحديات والعوائق على حساب الفرص والمعالجات، يتزايد إهدار ضمانات حقوق الإنسان بصورة مضطردة، باتت تهدد المكتسبات الأصيلة التي نالتها الأسرة البشرية بين 1966 و2006، فرغم التزايد الكمي في الآليات الدولية والقارية والإقليمية، لا يمكن إغفال تراجع التأثير نوعياً، وخاصة منذ قادت دول النموذج الغربي تراجعات متتابعة ملحوظة عقب جريمة 11 سبتمبر الإرهابية، وهي تراجعات تمس بضمانات حماية الحقوق الأساسية وهي تلك الحقوق التي لا يجوز التحلل من التمتع بها في حالات الطوارئ والحروب والكوارث، وخاصة احترام شروط المحاكمة العادلة وضمانات حظر التعذيب.

   ومنذ صدور العهدين الدوليين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية في العام 1966، بقي الحماس متدفقاً نحو توفير الضمانات لحماية الفئات الأكثر حاجة للرعاية (المرأة – الطفل – العمال المهاجرون – الأشخاص ذوي الإعاقة)، وكذا مواجهة الظواهر الأسوأ (التمييز العنصري – التعذيب – الإختفاء القسري)، وهي الاتفاقيات التي تشكل اليوم القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهو ذلك الفرع من القانون الدولي العام الذي بات أحد المحددات في العلاقات الدولية الثنائية والجماعية.

   حقق هذا التطور أيضاً إنجازات جوهرية على نحو ما جرى في 1985 نحو تشكيل لجنة لمراقبة تطبيق العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على غرار لجنة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (اللجنة المعنية بحقوق الإنسان)، اتصالاً بتطور الوعي الدولي بكون حقوق من قبيل العيش الكريم والغذاء والصحة والسكن والتعليم والعمل والهوية والإبداع “حقوق” وليست مجرد “حاجات” يمكن تأجيلها، وهو ما أكده مجدداً المؤتمر العالمي الثالث لحقوق الإنسان 1993 (إعلان وبرنامج عمل فيينا).

   كما حقق إنجازات أخرى من قبيل تضمين اتفاقية مناهضة التعذيب 1984 المواد 20، 21، 22 التي تعترف فيها الدول الأطراف بحق اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب في جمع وتلقي المعلومات وإجراء الفحص وتقصي الحقائق وتلقي الشكاوى من الدول ومن الأفراد وإجراء المساءلة حولها.

   كذلك إنجازات على نحو ما شهده مسار اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي جرى صوغها بتشاور واسع مع أصحاب المصلحة من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات المعنية بالإعاقة، وأقرت نظم تطبيق الاتفاقية بأهمية المشاركة الفاعلة من قبل أصحاب المصلحة في مراقبة التطبيق على المستوى الوطني، بما يعني أنها تعلمت من دروس تطبيق الاتفاقيات الأخرى.

   ولا مراء أن البروتوكولات الاختيارية الملحقة بالاتفاقيات شكلت قفزة مهمة لضمان مستوى أعلى من احترام الدول لالتزاماتها، وخاصة في مجال الشكاوى ضد خرق الاتفاقيات، ثم جاء البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب 2003 ليشكل قفزة مهمة على صعيد تأسيس بنية وقائية وطنية ودولية لمنع تلك الجريمة النكراء، ما حدا بكثير من الحقوقيين البارزين عبر العالم لوصف البروتوكول بالاتفاقية العاشرة في نسق القانون الدولي لحقوق الإنسان.

   ورغم ما شكله تأسيس وعمل مجلس حقوق الإنسان الأممي منذ العام 2006 من خطوة كبيرة للأمام، إلا أن صلاحياته الأوسع لم تُسهم في تعزيز التأثير على النحو المأمول، فالمجلس مع كونه الجهاز السياسي الأممي المعني بتطبيق حقوق الإنسان واتخاذ التدابير لضمان التنفيذ، وحقه في مساءلة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عن احترامها لكل ضمانات حقوق الإنسان – بما في ذلك بعض الاتفاقيات التي عزفت عن الانضمام إليها أو التي تحفظت على بعض بنودها عند الانضمام (كما في آلية الاستعراض الدوري الشامل مثلاً)، فقد أضحى المجلس فضاءً للمناكفات السياسية على نحو يعكس ديناميات الصراعات الدولية بأكثر مما يعكس أولويات الاهتمام بحقوق الإنسان.

   أسس المجلس الأممي المزيد من الولايات للإجراءات الخاصة (المقررين والفرق العاملة المعنية)، وهي على أهميتها لا تزال تفتقد الكثير لتعزيز قدرتها على التأثير، حيث لم يواكبها تطور مماثل على صعيد الاتفاقيات ووضع النصوص التي تشكل ضمانات تنضم إليها الدول طواعية على النحو الذي يدعم التزامها بها وامتثالها لها.

   فرغم أن المجلس الأممي يمتلك اللجنة الاستشارية التي تعد “المطبخ” الأكثر استعداداً لإعداد الاتفاقيات والقرارات التي تلبي الاحتياجات، إلا أن تضارب الأولويات بين الكتل الدولية في الجمعية العامة للأمم المتحدة يشكل عائقاً في سبيل تحقيق مثل هذا التقدم.

   ومن ناحية أخرى، فقد أدى إذعان المجلس الأممي لتفضيلات كتل جغرافية محددة لتأسيس ولايات هي موضع جدل كبير بين الانتماءات الحضارية، أدى إلى تشعبات وتشتت غير ضروري وفاقم الانقسامات، وهو أحد العوامل التي قادت لتراجع تأثير المجلس وقدرته على النهوض بمسئولياته.

   ومنذ العام 2006 وحتى اليوم لم يتحقق إنجاز جديد ملموس على صعيد وضع وتبني اتفاقيات جديدة منشودة (فيما عدا البروتوكول الثالث الملحق باتفاقية حقوق الطفل 2011)، وخاصة المطالب بوضع اتفاقية خاصة بتعزيز ضمانات جبر ضرر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، واتفاقية تتعلق بإنصاف الفقراء من تعسف التوجهات الاقتصادية، واتفاقية تختص بوضع ضمانات فعالة لتفعيل الحقوق الثقافية التي تعاني التهميش بالرغم من جهود عالمية رصينة اجتهدت لوضع الأطر اللازمة والحد من استغلال السيولة التي تتسم بها هذه الفئة من الحقوق.

   وفي الأونة الحالية، بات العمل من أجل تأمين الحق في الخصوصية في سياق التحديات الهائلة والمتسارعة لثورة الذكاء الاصطناعي الأمر الأكثر أولوية على ساحة العمل الدولي لحقوق الإنسان، خاصة مع احتكار بضعة شركات معدودة للقرار في هذا الصدد، ومن المؤسف أن تقبل القوى الدولية الرئيسية – بما فيها القوى التي تُظهر دعماً لاحترام حقوق الإنسان – استمرار هذا الاحتكار في ناحية، واستلاب هذه الشركات للقرار العالمي في ناحية أخرى.

   ومن نافلة القول أن الدول الأكثر تأثراً بهذه التطورات – وخاصة الدول النامية – لا تزال تُظهر تسامحاً غير محمود، رغم ما يصيب حكوماتها ويصيب مجتمعاتها من كوارث تُطيح بفرصها في التنمية والتقدم.

   ورغم أن ذلك ليس ببعيد عن سلوك الدول النامية إزاء غيبة العدالة المناخية مع تزايد التهديدات والوقائع التي تعكس خطورة هذا التحدي المفزع، إلا أنه يعد أكثر سوءً في ناحية الشروط المجحفة لمؤسسات التمويل الدولية والتي هي قادرة على إنجاز تحولات على أرض الواقع. بينما لا ينتهي الحوار داخل أروقة العمل الدولي لحقوق الإنسان نحو نتائج ملموسة، فرغم أهمية المخرجات بما تضمنته من محددات ومعايير وشروط، إلا أنها لا تزال بعيدة عن التأثير في الواقع العملي.

   ودون شك، فإن الدول المُضارة مما سبق تشكل الأغلبية العددية في الأمم المتحدة وفي مختلف أجهزتها، ومن المأمول أن تتحرك صوب معالجة هذه التحديات بما يتناسب مع مصالح كل الأسرة البشرية. وتعد إعادة الاعتبار لتطوير اتفاقيات حقوق الإنسان بما يتناسب مع المصالح الجماعية أداة مهمة بين أدوات متنوعة لإصلاح مكامن الخلل الراهن، ليس فقط فيما يتصل بتحقيق مصالح متوازنة لكل الدول الأعضاء، لكن أيضاً لسد الفراغات التي باتت تستخدم لإثارة مزيد من الاضطراب والتشتت.

   وتبقى خاتمة القول أن الإصلاح على المستوى الدولي يبدأ حتما بإصلاحات جدية على الصعيد الذاتي، لأن الإصلاحات الذاتية هي ما تُوفر عناصر القوة اللازمة للإصلاح على المستوى الدولي.

   ويبدو أن العالم اليوم بحاجة لائتلاف مماثل لحركة عدم الانحياز التي ضغطت لإقرار اتفاقية مناهضة التمييز العنصري 1965 للتصدي لجرائم الفصل العنصري في أفريقيا والعالم، ويسّرت بالتبعية إقرار العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966 بعد أعوام من التأخُر نتيجة الصراع بين حلفي الناتو ووارسو على الأولويات.

(*) رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان ومسؤول حقوق الإنسان السابق بالأمم المتحدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى