مقالات

“المجتمع المدني”… ما الذي تبقى له ومنه؟ …. مقال الاستاذ/ يسري مصطفى – جريدة وطني

“المجتمع المدني”… ما الذي تبقى له ومنه؟

بقلم : أ. يسرى مصطفى

على مدار ما يزيد من ثلاثة عقود، أي منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بات المجتمع المدني حيزا للفعل الاجتماعي والمجتمعي في وقت اتسم فيه الحيز السياسي بالجمود الأيديولوجي والمؤسسي في معظم البلدان العربية، وهو جمود لم يحرك ساكنه في بعض البلدان العربية إلا دوران رحى العنف بين الدولة وجماعات الإسلام السياسي المسلحة وغير المسلحة. وقد أخذت هذه المنظمات على عاتقها مهام دفاعية وأخرى إصلاحية من خلال التأثير في الوعي والسياسات، وأدوارا تنموية وأخرى تتعلق بالدعم القانوني والاجتماعي والنفسي. ولم تكن علاقة المنظمات الحقوقية الدفاعية على وئام مع السلطات، ومن ثم فقد كان عليها مواجهة إتهامات وصعاب قانونية ومحاولات دائمة لنزع شرعيتها. وخلال هذه العقود لم يستقر منحني المجتمع المدني صعودا وهبوطا وفق محددات تتعلق بالعلاقة بالدولة والمجتمع الدولي، والتحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة. وبتتبع مسار تشكل المجتمع المدني خلال هذه العقود يمكن ملاحظة عددا من المراحل، اتخذت فيها العلاقة بين المدني والسياسي طبيعة خاصة، ويمكن في هذا الصدد، الحديث عن أربعة مراحل أساسية على فترات زمنية قصيرة.

بداية كانت مرحلة النشأة والتأسيس مع نهاية الثمانينيات وخلال عقد التسعينيات الذي يعد أكثر العقود خصوبة للمجتمع المدني، حيث شهد ظهور منظمات تعمل في كافة المجالات الحقوقية والتنموية، فخلاله شهدنا زخما غير مسبوق في مؤتمرات الأمم المتحدة العالمية في البيئة والطفل وحقوق الإنسان والمرأة والتنمية والغذاء والسكن. وفي هذه المرحلة التأسيسية أصبحت العلاقة بعالم السياسة هي العامل المحدد لهوية المجتمع المدني حيث تم التركيز على الطابع “اللاسياسي” للمجتمع المدني كأحد مقضيات بناء هوية هذه الكيانات الجديدة وتمايزها. وعلى الرغم من التنوع الكبير في مكونات المجتمع المدني التي تشكلت آنذاك، إلا أن المنظمات الحقوقية شكلت المكون الأكثر بروزا، وكانت الأكثر قدرة على التواصل إقليميا ودوليا وطرح القضايا الحقوقية في وجود مجتمع دولي وعلاقات دولية بدت أكثر اهتماما بحقوق الإنسان ودعم وتعزيز أدوار المجتمعات المدنية البازغة.

أما المرحلة الثانية، فقد بدأت مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية، ويمكن وصفها بأنها مرحلة التحول باتجاه المطالبة بالديمقراطية. ولا يعني هذا أن المجتمع المدني لم يكن يطالب بالديمقراطية أو أنه في مجمله تحول نحو المطالبة بالديمقراطية، ولكن لأن قضايا التحول الديمقراطي باتت هدفا يتجاوز الإطار الحقوقي المعنى برصد وفضح الانتهاكات، فبدأ التركيز على قضايا الانتخابات والممارسة السياسية وقضايا الفساد والمساءلة وغيرها. كما دخلت الساحة أجيال جديدة أنشأت منظمات معنية مباشرة بقضايا الديمقراطية والانتخابات والمشاركة السياسية. كما ظهرت حركات سياسية تتبنى لغة المجتمع المدني في إطار خطابات يتفاعل فيها السياسي بالحقوقى بالتنموي. ويمكن القول أن هذه المرحلة شهدت تحولا ملحوظا في علاقة المجتمع المدني بالمجتمع السياسي سواء على مستوى القضايا أو على مستوى الفاعلين.

 وجاءت المرحلة الثالثة مع ما يسمى بـ “الربيع العربي”، وهي مرحلة شديدة الأهمية لأنها شهدت تطورات غير مسبوقة ولم تقتصر على بلد واحد. وفي هذه المرحلة القصيرة حدث بالفعل تحولات هيكلية في بنية المجتمع المدني والذي أصبح منطقة “رمادية” تفتقر إلى الحدود الواضحة بين المدني والسياسي بسبب تعدد الفاعلين وتداخل الأدوار وعدم وضوح الهويات والانتماءات والتطلعات. فمن ناحية أولى، شهد المجتمع المدني دخول روافد جديدة تم تعريفهم بكلمة مبهمة وهي “النشطاء” والتي اسُتخدمت إعلاما لوصف قطاعات واسعة وغير متجانسة من الفاعلين على المستويات الاجتماعية والسياسية ووسائل التواصل الاجتماعي. ومن ناحية ثانية، شهدت هذه المرحلة أكبر عملية نزوح من المجتمع المدني إلى المجتمع السياسي. وبسبب هذه الحركية تصاعدت أزمة هوية المجتمع المدني: ما هي مكوناته؟ وكيف يمكن تحديد ملامحه؟
وأخيرا المرحلة الحالية وفيها نشهد هبوطا حادا في منحنى منظمات المجتمع المدني ليصل إلى أدنى مستوياته على مدار الثلاثة عقود. وتعزو الكثير من الآراء والتحليلات هذا الهبوط إلى حقيقة أن منظمات المجتمع المدني تواجه بيئة مقيدة ومعادية ليس فقط على المستويات المحلية، بل على المستوى الدولي بسبب التراجع الملحوظ لمكانة حقوق الإنسان في العلاقات الدولية. ومع تضييق مساحات عمل منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان والتنمية، بدا الإنحياز واضحا لفكرة أن المجتمع المدني يمكن أن يتشكل من المنظمات المعنية بلعمل الخيري أو التنموي التقليدي، فضلا عن الأدوار الجديدة لقطاع الخاص وريادة الأعمال في مجال التنمية. وهكذا لم تعد منظمات المجتمع التي تشكلت خلال العقود الماضية تواجه فقط ضغوطا تقلص مساحات عملها، فثمة عوامل ذاتية أخرى تتعلق ببنية وهوية وأدوار المجتمع المدني ذاته، وهي تحولات تجعلنا نطرح سؤالا يحتاج إلى إجابة: ما الذي تبقى من المجتمع المدني كبنية وهوية؟ وما الذي تبقى له للعيش في بيئة الحاضر بما فيها من تحولات وما تفرضه من تحديات؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى