مقالات

مقال الدكتورة “نيڤين مسعد” .. الأهرام ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٠ “عزف أمريكي منفرد”

عزف أمريكي منفرد

 

د.نيڤين مسعد
الأهرام ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٠

في شهر واحد هو شهر سبتمبر الجاري استخدمت الولايات المتحدة سلاح العقوبات في اتجاهين مختلفين . الاتجاه الأول هو المضي قدماً فيما بدأَته سابقاً بمعاقبة كبار المسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية وعلي رأسهم المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودة بسبب اعتزامها فتح تحقيق في جرائم حرب تثور شكوك حول تورط الجنود الأمريكيين في ارتكابها في أفغانستان ، وامتدت هذه العقوبات – التي تتمثل في تجميد أموال مسؤولي المحكمة في المصارف الأمريكية ومنع دخولهم أراضي الولايات المتحدة-امتدت لتشمل كل من يقوم بتمويل تحقيقات هذه المحكمة التي وُصفت بالفاسدة تماماً. وبرر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو تلك العقوبات بقوله إن المحكمة تقوم بمحاولات غير مشروعة لإخضاع الأمريكيين لولايتها القضائية . أما الاتجاه الثاني فهو الإعلان عن استعداد الولايات المتحدة لمعاقبة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي لا تقبل بإعادة العمل بقرارات مجلس الأمن الصادرة ضد إيران في إطار الفصل السابع ، وهي القرارات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني والتي ألغاها مجلس الأمن بقراره الشهير رقم ٢٢٣١ في يوليو ٢٠١٥ . وبرر وزير الخارجية مايك بومبيو هذا التهديد بقوله إن إيران هي الراعي الرئيسي للإرهاب ومعاداة السامية في العالم ، وإن دول العالم عليها أن تفي بالتزاماتها بتنفيذ العقوبات الأممية التي أعادت بلاده تفعيلها . هكذا يتضح لنا بمقارنة الموقفين أن الولايات المتحدة ترفض إخضاع مواطنيها للولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية ، لكنها تعطي نفسها الحق في معاقبة مواطني الدول الأخري ومؤسساتها وتخضعهم لولايتها . بطبيعة الحال سيخرج من يقول لنا إن الولايات المتحدة لم تنضم للمحكمة الجنائية الدولية وهذا صحيح ، بينما هي عضو دائم في مجلس الأمن وهذا أيضاً صحيح ، لكن تبقي جملة واحدة ناقصة لازمة لتوضيح الأمر ، وتلك هي أن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق النووي مع إيران وبالتالي لا يحق لها استخدام الآلية المسماة بالزناد ، ومعناها التأهب لفرض العقوبات علي الطرف المخل بالتزاماته في الاتفاق .

في محاولة من الولايات المتحدة لتجاوز هذا المأزق لجأت إلي نوع من التلاعب القانوني بالقول إنها انسحبت من الاتفاق النووي مع إيران ، بينما هي مازالت طرفاً في قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٣١ وبالتالي يحق لها استخدام آلية الزناد الموجودة فيه، لكن القرار المذكور هو في الأصل والأساس مبني علي الاتفاق النووي من ألفه إلي يائه ، وبالتالي فإن الانسحاب من الاتفاق يترتب عليه منطقياً الانسحاب من القرار . لكن هذا التلاعب صار هو الملاذ الأخير للولايات المتحدة بعد أن فشلت قبل شهر في استصدار قرار من مجلس الأمن بتأجيل مفتوح لرفع العقوبات علي بيع الأسلحة التقليدية لإيران ، بل ومُنيت الولايات المتحدة بهزيمة ثقيلة نتيجة اعتراض الصين وروسيا وامتناع ١١دولة عن التصويت علي القرار بحيث لم تؤيدها سوي دولة واحدة هي جمهورية الدومينيكان .هنا انتقلت الولايات المتحدة من المطالبة بمعاقبة إيران بماهو أدني أي حرمانها من استيراد السلاح إلي معاقبة إيران بماهو أعلي أي استعادة كل عقوبات مجلس الأمن التي سبق رفعها . وفي الأثناء ضغطت الولايات المتحدة علي أندونيسيا والنيجر رئيسي المجلس في شهرّي أغسطس وسبتمبر لعرض قرار يتضمن استمرار رفع العقوبات عن إيران ، حتي إذا استخدمت هي حق الڤيتو ضد القرار سقط ، لكن هذه المحاولة فشلت بدورها لسبب بسيط هو أن رفع العقوبات بنص القرار ٢٢٣١ مازال سارياً حتي تاريخه ولا يحتاج إلي إعادة تصويت .

لقد اعتدنا من الولايات المتحدة علي العزف المنفرد خارج إطار منظومة أو معزوفة القانون الدولي ، فرأينا الكونجرس يصادق علي قانون داماتو في عام ١٩٩٦ في ظل بيل كلينتون ، وهذا القانون كان يقضي بمعاقبة كل من يستثمر في قطاعّي النفط والغاز في كلإيران وليبيا بأكثر من ٤٠ مليون دولار .ورأينا الجيش الأمريكي يعتدي علي العراق في عام ٢٠٠٣ في ظل بوش الإبن دون أي سند من مجلس الأمن بل وفي ظل رفض دولي وشعبي واسع النطاق . ومع ذلك فإن تهديد الولايات المتحدة بمعاقبة الدول التي لا تسايرها في تطبيق آلية الزناد أخطر من كل ما سبق لعدة أسباب ، أحدها أنه يجعل مجلس الأمن في موقف المتفرج علي الأحداث ، فالولايات المتحدة اعتبرت أن عقوبات مجلس الأمن ضد إيران قد عادت وانتزعت لنفسها سلطة مجلس الأمن في إنفاذ تلك العقوبات في إطار الفصل السابع . وبالطبع فإن عدوان الولايات المتحدة علي العراق هو أيضاً جعل المجلس في موقف المتفرج ، لكن الفارق أن الولايات المتحدة قامت بهذا العمل غير القانوني ولم تعاقب من لم ينضم إليها فيه ، أما في الحالة الراهنة فإنها تريد أن تجرف المجتمع الدولي كله معها لمخالفة القانون الدولي . ثانيها أن الأثر علي حلف شمال الأطلسي أعمق بمراحل وهو يأتي في وقت يعاني فيه الحلف من موت سريري بتعبير الرئيس الفرنسي ماكرون ، واللافت أنه رغم تبعية بريطانيا للقرار الأمريكي ومشاركتها الولايات المتحدة في عدوانها علي العراق إلا أنها رفضت إعادة العمل بالعقوبات الملغاة . ثالثها أننا لو قارنّا بين داماتو وتفعيل آلية الزناد سنجد أن داماتو استهدف بالأساس أفرادًا وشركات يتعاملون مع إيران وليبيا في مجال الطاقة ، أما آلية الزناد فإنها تنتهي في الأخير إلي إعادة العمل بكل العقوبات المفروضة علي إيران بما في ذلك العقوبات العسكرية وصفقات السلاح التي تتم بالأساس بين الدول ووزارات الدفاع .

الولايات المتحدة في مأزق لأنها تدير ظهرها للحلفاء بعد أن أدارته للخصوم ، لكن أوروبا بدورها في مأزق لأنها موزعة مابين رفضها الخضوع للإملاءات الأمريكية ورفضها التغاضي عن خرق إيران المتتالي لالتزاماتها في الاتفاق النووي ، وهذا موضوع المقال القادم .

د. نيفين مسعد
استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

* * *

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى